وليـــــمة
أقامت سعاد حفل ختان ابنها البكر . دعت لحضوره عددا من الجيران والأصدقاء .
تقيم مع زوجها بديار المهجر منذ سنوات .
اصطحبت أختها فاطمة الزهراء وبنتها ليقضيا معها فترة علاج ونقاهة .
فاطمة امراة مسنة واجمة ساهية باستمرار .
حضر الحفل عدد من الرجال والنساء المدعوين .
كما تعلمت سعاد من والديها وأهلها بالغت في إكرام ضيوفها وإظهار الحفاوة والغبطة بحضورهم .
حرصت على إعداد أختها فاطمة باللباس اللائق والمظهر المناسب لتشارك في الحفل .
أخذت فاطمة مكانا في واجهة البيت . إلاأنها لا ترد التحية ولا تبادر بالسلام على أحد .
استغرب حالها بعض من احتك بها وحاول التودد إليها بعبارات التهنئة والمجاملة . لا تأبه بهذا ولا تلوي على ذاك .
رقت لحالها إحدى السيدات ، فاقتربت منها وحاولت استمالتها ، فاستجابت فاطمة وتجاوبت ، فقبلت كوب مشروب غازي ، ثم قطعة حلوى ، وردت على الهدية بابتسامة خافتة ونظرة حنان ذابلة . أصرت السيدة على سبر أغوارها الغريبة ، للكشف عن معاناتها . فاطمة لا تستطيع الرد وتكتفي بابتسامات خفيفة ونظرات حزينة تتوالى الواحدة تلو الأخرى .
مجرد مجاملة لجارة أختها .
استعانت السيدة ببنت فاطمة لتستفسرها عن حال أمها .
- هل هي على هاته الحال منذ زمن بعيد ؟
- نعم ... منذ كنت صبية في السنة السادسة من عمري .
- أتدرين متى انتابها هذا الوجوم والاكتئاب ؟ وما أسبابه ؟
- كنا نسكن مدينة مغربية جميلة ، تطل على البحر الأبيض المتوسط .
ننعم بالهدوء والراحة والطمأنينة والرخاء .
نشكل أسرة صغيرة متحابة متآلفة ، يرأسها أب ميسور الحال يوفر لأهله : أمه ، وأمي زوجته ، وأبنائه إخوتي الأربعة ، عيشا رغيدا واستقرارا سعيدا .
لا أعرف لحد الآن ماذا حدث ولا كيف حدث . كل الذي أذكره أني أفقت من النوم فوجدتني في حضن أمي ، الظلام مطبق ، والغبار خانق ، أمي تتألم وتئن ، ولا تتكلم ،
أفتح عيني ثم أغمضها ، وأفتحها ولا أرى شيئا . سألت أمي فلم تجب ، وتساءلت مع نفسي .
لعلنا دفنا أحياء .
تذكرت ما كان أبي يقصه علينا أحيانا من سير العرب في العصر الجاهلي الذين كانوا يئدون البنات خوفا من العار ، فتوهمت أني وئدت مثلهن .
أنا وأمي في قبر من قبور الأموات .
حاولت الجلوس فلطمتني عارضة اسمنتية متكئة على جدار البيت ، أمي ممددة لا تتحرك ، خلتها فارقت الحياة ، أخذت أناديها وأحركها بعنف فمدت يدها وطمأنتني .
أشعر بهواء لافح يتسلل من إحدى جنبات القبر .
لا أدري كم قضينا . شعرت بتعب شديد . حاولت الانفلات من حضن أمي . أبحث عن مصدر الهواء .
تلمست شظايا الأسقف بيدي . إنها أعمدة حديد وهياكل إسمنت وبقايا جدار مبلط . إلى أن غارت يدي في فوهة سحيقة ، إنه مسلك الهواء . وضعت رأسي في الفوهة دون أن أجرأ على اختراقها . لاح لي شعاع الضوء في مكان سحيق .
أخذت أصيح :
أنقذونا ... أنقذونا ... نحن هنا أنا وأمي ...
رددتها مرارا وصوتي يتموج في فراغ ، تحفه أشباح جدران عملاقة .
ولا من يجيب ...
في فترة هدوء توهمت أني أسمع من يستغيث : أنا هنا ... هل من مجيب ؟
أسرعت مرة أخرى إلى الفوهة لأتبين مصدر الصوت ..لكن لا أحد . وبعد مدة يئست من الحياة .
بح صوتي . جفت حنجرتي ، وطفقت أتضور جوعا ، فاستسلمت ، وتمددت إلى جانب أمي أتتبع أنفاسها وأعد نبضات قلبها . وخلال غفوة انتهى إلى مسمعي صوت بعيد عبر مكبر يبشرنا :
نحن قادمون ... اصمدوا ولا تستسلموا ...
عمت فرائصي قشعريرة الأمل في النجاة . أخذت أتنقل بين مكان أمي أطمئنها وأطمئن عليها وبين الفوهة لأتأكد من مصدر البشرى .
تيقنت الآن بأن بيتنا انهار وتهدم فوق رؤوسنا . تذكرت أبي وجدتي وإخوتي . ناديتهم باسمائهم ... ولا مجيب ...
بعد مدة أخذ زئير آلة ضخمة يقترب منا ، وصوت ينادي :
- من هنا ؟
- أنا هنا مع أمي ... أمي مصابة لا تستطيع الحركة ولا النطق .
- لقد حددنا مكانكما
- هل تستطيعين النفاذ من النافذة التي تتكلمين منها ؟
- نعم أستطيع ...
عدت إلى مرقد أمي وأخبرتها ، فأمسكت بيدي إشارة إلى سماعها ما بشرتها به .
نفذ ضوء قوي إلى مرقدنا فوجدت أمي مستلقية على سريرها .مدرجة في دمائها .
أمسكت يدها كتلة إسمنتية ضخمة .
غير قادرة على الحركة أو الانفلات .
انطفأ الضوء هنيهة ثم أومض ، وأطل برأسه أحد المنقذين وأمرني بالتمسك به ، فأحطت ذراعي بعنقه ونزلنا .
التقطني المسعفون وسالني أحدهم :
- من معك ؟
- أمي عالقة لا تستطيع الحركة ولا التكلم .
- سنتدبر أمرها .
فقلت في نفسي :
- ليتني مكثت إلى جانب أمي حتى ننجو معا .
إصاباتي خفيفة وجروحي غير غائرة . أستطيع مغادرة السرير لتقديم خدمات شرب ماء أو تقريب حاجة للأطفال العاجزين عن الحركة .
السيدة جارة خالتي سعاد تأثرت كثيرا فانهمرت دموعها وقالت : هل سألت عن أمك وأبيك وجدتك وإخوانك ؟
- بمجرد تضميد جروحي وتنظيف جسمي وملابسي انطلقت أتجول عبر قاعات المصابين ، فعثرت على أمي تعاني من كسور بيدها ورجلها ، وجروح برأسها ووجهها .
يبدو أنها تلقت الصدمات عني .
لفتني بجسدها وجنبتني التعرض لاي أذى .
وجدتها تئن بصوت غائر وتتألم في صمت .
كلمتها ففتحت عينين حمراوتين ورسمت ابتسامة عريضة تهنئني بسلامتي .
كفكفت دمعي وابتلعت حسرتي وخرجت باحثة عن باقي أفراد أسرتي .
طفت المراقد كلها وأخبرني أحدهم :
- السكن الذي كنتم به انهار عن آخره ولم ينج أحد من سكانه ، إلا أمك وأنت وأحد جيرانكم .
- لك أن تسالي عن أقاربك بقسم الوفيات .
- فارقوا الحياة تحت الركام وأقبروا في قبور جماعية .
طلبت بعض النقود ، وكلمت خالتي سعاد التي وصلها نبأ الفاجعة المدمرة في وقته ، وزارت مكان بيتنا فأخبروها بهلاك الجميع . أقامت مأتما وتلقت العزاء في كل أهلها وعادت منكسرة مكلومة .
فاجأتها اليوم بخبر نجاتي ، ووجود أمي بقسم الرعاية المركزة داخل المستشفى .
عادت توا إلى أرض الوطن .والتحقت بالمستشفى . لم تتمالك دموعها ولا تحكمت في عويلها .
تبكي حال أختها التي كانت لها أما وأختا وصديقة حبيبة . وتتألم لفراق أبي وجدتي وإخوتي.
ساهم زوجها وبعض عمال المستشفى في تهدئتها .
وأعدت العدة لاصطحابنا معها لإتمام العلاج هنا بأرض المهجر .
مسكينة هذه الأسرة المنكوبة . قالت السيدة .
- وما ذا قال الطبيب المعالج ؟
- إن أمي تعرضت لصدمة عنيفة أثرت على العديد من الأجهزة بجسمها . ومع المدة ستعافى وستتماثل للشفاء تدريجيا ...
انتهت مراسيم الحفل . أخذ المدعوون يودعون وينصرفون . التفتت سعد إلى إحدى زوايا القاعة فلفت انتباهها عناق حار بين جارتها وابنة أختها ، اقتربت منهما وسألت السيدة .
- هل تعرفينها؟
- عرفتها الآن ، واكتشفت أنها من أقاربي . ستزورني أمي بعد أسبوع وهي التي ستستطيع تحديد مرتبة القرابة بيننا .أتمنى لأختك الشفاء العاجل . وإلى اللقاء .